سبحان الله              الحمد لله           لا اله الا الله             الله أكبر                سبحان الله وبحمده , سبحان الله العظيم , عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته                     اللهم اغفر للمؤمنين و المؤمنات الأحياء منهم و الأموات

دورة كيفية الإيمان بالقدر

Rayk Cool for blogger tutorial


[مقدمة الإيمان بالقدر]

الإسلام.. جاء ليقيم منهج كامل للحياة المسلم ، يتضمن أعماله الصغيرة والكبيرة، والعقلية والاعتقادية، فكان من ذلك: الإيمان بالقدر.


فالقدر يتضمن جزء كبير من عقيدة المسلم ،
بحيث يربطه دائما بالله عز وجل الذي بيده النفع والضر، ويقر في قلبه حقيقة حكمته تعالى وتدبيره، 
قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)] القمر.


كل شيء.. كل صغير وكبير.. كل ناطق وكل صامت.. كل متحرك وكل ساكن.. 
كل ماضي وكل حاضر.. كل معلوم وكل مجهول.. كل شيء.. مخلوق بقدر..
قال تعالى: [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)] الأنعام.


قدر.. يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه، 
ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء ، وتأثيره في كيان هذا الوجود.




قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)] القمر.
هذا النص القرآني القصير اليسير.. ليشير إلى حقيقة ضخمة وهائلة وشاملة، 
مصداقها هذا الوجود كله!!! حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، ويتجاوب معه ،ويتلقى عنه، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقا دقيقا .. 
كل شيء فيه بقدر يحقق التناسق والتوازن المطلق ، الذي ينطبع ظله في القلب وهو يواجه هذا الوجود !!


قال تعالى: [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) 
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)] آل عمران.


إن أمر القدر عظيم.. ومقدر بغاية الحكمة والتدبير.. تقدير في الزمان، وتقدير في المكان، وتقدير في المقدار، وتقدير في الصورة، وتناسق مطلق بين جميع التقديرات.
قال تعالى: [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)] الفرقان.
إن تركيب هذا الكون ،وتركيب كل شيء فيه، لما يدعوا إلى الدهشة حقا !! وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا، 
ويُظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهرة في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير..


إن القول بأن الكون صدفة.. لا يصدر من إنسان تقلب بين أرجاء الأرض، وعلم بخبر السماء.. ولا يصدر من إنسان يتتبع آثار الإبداع والجمال والتناسق .. في الأرض والسماء.. 
وإنما يصدر من عقل صغير محدود.. لا يدرك ما حوله!!
إن الصدفة توحي بالفجأة، كقول: قابلت هذا الشخص صدفة- أي بدون علم ولا موعد.. فهل كل هذا الكون الهائل العظيم .. جاء فجأة ،بدون تقدير وبدون علم ؟!! 
هل الصدفة تقلب الليل والنهار.. وتجري البحار والأنهار.. وتبدع الثمار والأزهار... وبهذا الاستمرار ؟!!!
كلا.. لا يوجد شيء من قبل المصادفة العمياء.. بل كل شيء في هذا الكون بقدر، قال تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)] القمر.


ومفهوم القدر واسع شامل لكل شيء في خلق الكون.. وخلق الإنسان، والحيوان، والنبات، ويرتبط بموضوعنا "الإيمان بالقدر" ، 
فكان من عقيدة المسلم ،بل من شروط إيمانه : الإيمان بالقدر.. ومكنونة القلب، بأن يعتقد أن كل هذا الكون يجري بتقدير الله تعالى وأمره وحكمته وعلمه، ولا يخرج شيء عن قدر الله تعالى. قال تعالى: [وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)] الرعد.






الإيمان بالقدر..
يجعل القلب مطمئنا واثقا.. ويظهر حقيقة الكون عظيما هائلا.. 
بل ويجعل الإنسان كبيرا.. كبيرا في تصوراته وأعماله واعتقاده .. كبيرا بعقله وفكره وانجازاته.. كبيرا عن الخرافات والباطل الذي يحاول الناس أن يصلوا بها إلى حقيقة سر هذا الكون.


الإيمان بالقدر..
يربي النفس على الصبر والقوة والاحتمال.. ويحارب اليأس والقنوط والكسل، ويشجع على الإقدام والعمل، ويخفف حدة المصائب المؤلمة ، ويريح النفس ويطمئنها..


الإيمان بالقدر..
يختصر الطريق.. ويوصل مباشرة إلى الله تعالى .. ويوحد مصدر الخلق والقوة والقدرة المطلقة.. ويربط القلب بأصل القدرة ومصدرها، فلا يتشتت القلب والفكر.. ولا يتذلل للمخلوقين لطلب النفع أو دفع الضر، بل يتوجه مباشرة للخالق القادر على كل شيء .. الحكيم الرحيم العدل.. 
قال تعالى: [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)] يونس.


الإيمان بالقدر.. 
يعطي الراحة والاطمئنان والأمان.. عندما يثق المسلم أن الكون كله قائم على القدرة والعدل.. فلن يصله إلا ما هو مقدر له.. فلا يتهافت ويتعلق بغيرة ،بل يجعل تعلقه كله ورجاءه بالله تعالى، 
فكل إنسان مقدر له عمله ورزقه واجله.. لا يسلبها أحدا منه، 
قال تعالى: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)] التوبة، 
قال r(احفظ الله؛ يحفظك، احفظ الله ؛ تجده تجاهك، إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة؛ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف )-2561-صحيح الترمذي للألباني.، 
قال r(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)السلسلة الصحيحة:5/497.








والواجب على المسلم أن يعتقد الاعتقاد الجازم 
أن لله تعالى في جميع أفعاله وإراداته وأقداره.. حكم جلية وغايات ومصالح عظيمة ،سواء علمنا بها أو لم نعلم.


الدرس: الأول

س1: عرف القضاء والقدر ؟ موضحًا العلاقة بينهما ؟



ج1: القدر بفتحتين بمعنى التقدير .
واصطلاحًا : تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته .
والقضاء لغة له معان ، ومنها : الحكم ، وهما مصطلحان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، أي إذا ذكر القدر وحده دخل معه القضاء وإذا ذكر القضاء وحده دخل معه القدر ، وإذا ذكرا جميعًا في سياق واحد تغايرا ، 
فيكون القدر بمعنى العلم السابق والكتابة والمشيئة ، 
والقضاء بمعنى وقوع ذلك المقدور وخلقه فهما في ذلك كالإسلام والإيمان ، والله أعلم .
* * *



س2: ما معنى الإيمان بالقدر مع بيانه بالدليل ؟

ج2: معنى الإيمان بالقدر أن تؤمن الإيمان الجازم بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء ، فالله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن الله كتب الأشياء قبل خلقها وشاءها ، فلا يخرج شيء عن كونه مقدورًا له جل وعلا ، قال تعالى : } إنا كل شيء خلقناه بقدر { ، وقال تعالى : } وكان أمر الله قدرًا مقدورًا { ، وقال تعالى : } وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم { ، وقال تعالى : } وخلق كل شيء فقدره تقديرًا { ، وقال تعالى : } والذي قدر فهدى { ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن أبيه في حديث جبريل الطويل وفيه : (( أدركت ناسًا من أصحاب النبي e يقولون : كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس )) ، وقال e : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل )) رواه مسلم أيضًا ، وقد أجمع أهل العلم على الإيمان بالقدر وأنه الركن السادس من أركان الإيمان ، والله أعلم .
* * *



س3: ما مراتب الإيمان بالقدر ؟ مع بيانها بالأدلة ؟

ج3: مراتب الإيمان بالقدر أربع مراتب :
المرتبة الأولى : مرتبة العلم ، معناها : الإيمان بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات ، لا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء ، فقد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار من قبل أن يخلقهم ، وأنه يعلم كبير الأشياء ودقيقها على السواء ، قال تعالى : } إن الله بكل شيء عليم { ، وقال تعالى : } ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن { ، وقال تعالى : } وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتاب مبين { ، وقال تعالى : } إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرس نفس ماذا تكسب غدًا وما تدرس نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير { ، وقال تعالى : } وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا { ، وقال تعالى : } هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى { .
وقال - عليه الصلاة والسلام - لما سئل عن أولاد المشركين : (( الله أعلم بما كانوا عاملين )) متفق عليه ، والله أعلم .
المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة ، ومعناها : الإيمان الجازم بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل السنة على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب ، قال تعالى : } ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتابٍ إن ذلك على الله يسير { ، وقال تعالى : } ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين { ، وقال تعالى : } ما فرطنا في الكتاب من شيء { ، وقال تعالى : } وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتابٍ إن ذلك على الله يسير { ، وقال تعالى : } قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا { .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله e يقول : (( كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة )) ، والله أعلم .
المرتبة الثالثة : المشيئة ، ومعناها : الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون من حركةٍ ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيئته وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى والفطرة التي فطر الله الناس عليها ، قال تعالى : } وربك يخلق ما يشاء { ، وقال تعالى : } من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم {. وقال -عليه الصلاة والسلام- : (( إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء )) .
المرتبة الرابعة : الخلق ، وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بالله تعالى وهو خالق كل شيء ، فهو وحده جل وعلا خالق الكائنات بذواتها وصفاتها وحركاتها ، فهو الخالق وما سواه مخلوق ، قال تعالى : } الله خالق كل شيء {، وقال تعالى : } وخلق كل شيء فقدره تقديرًا { ، وقال تعالى : } هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون { ، وقال تعالى : } يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً { ، وقال تعالى : } يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى { ، وقال تعالى : } والله خلقكم وما تعملون { . وروى الإمام البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة t قال : قال رسول الله e : (( إن الله يصنع كل صانع وصنعته )) .



فهذه المراتب الأربع هي مراتب القدر ولا يتم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها ، والله أعلم.
* * *


الدرس: الثاني



س162: ما مذهب أهل السنة في أفعال العباد ؟ مع الدليل ؟

ج162: مذهب أهل السنة في ذلك هو أنها داخلة في عموم قوله تعالى : } الله خالق كل شيء { ، وأفعال العباد من جملة الأشياء ، فهي داخلة في هذا العموم ، ومن أخرجها منه فعليه الدليل ؛ لأن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد الناقل ، فأفعال العباد كلها من الطاعات والمعاصي داخلة في خلق الله تعالى وقضائه وقدره ، فقد علم الله تعالى ما سيخلقه في عباده وعلم ما هم فاعلون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ وخلقهم الله كما شاء ، ومضى فيهم قدره ، فهم يعملون على وفق ما سبق به العلم والقدر والكتابة ، فأفعال العباد خلقًا وإيجادًا وتقديرًا من الله تعالى ، وهي من العباد كسبًا وفعلاً ، فالله تعالى هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها حقيقة ، وعلى ذلك اتفق أهل السنة والجماعة ، وكل ما مضى من الأدلة في المرتبة الرابعة - أعني مرتبة الخلق - دليل على هذا الأمر ، وخصوصًا قوله تعالى : } والله خلقكم وما تعملون { سواءً قلنا إن ( ما ) بمعنى المصدر أي ( والله خلقكم وعملكم ) أو كانت بمعنى ( الذي ) ، فيكون المعنى ( والله خلقكم والذي تعملون ) ، والله أعلم .
* * *
س163: من الذي خالف في ذلك ؟ وما الجواب عليهم ؟
ج163: خالف في ذلك القدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة لله تعالى ، ويقولون إن العبد هو الذي يخلق فعله بنفسه ، ويجاب عنهم بعدة وجوه :
الأول : أنه مخالف لما أجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة وما خالف إجماع السلف فهو باطل ؛ لأن إجماعهم من سبيلهم وقد قال تعالى : } ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا { .
الثاني : أنه مخالف لدلالة الكتاب والسنة ؛ لأن نصوص الوحيين قضت قضاءً جازمًا أن الله تعالى هو خالق الأشياء كلها وأنه لا خالق إلا هو ، وهم يقولون : العبد هو الذي يخلق فعله ، وهذا معارضة ومناقضة للكتاب والسنة ، ومفضٍ إلى تعطيل عموم نصوص خلق الله تعالى لكل شيء وما أفضى إلى تعطيل عموم نصوص خلق الله تعالى لكل شيء وما أفضى إلى ذلك فهو باطل ، فدل ذلك على أنه مذهب باطل كل البطلان .
الثالث : إن فيه نوع إشراك في الربوبية ؛ لأن من مقتضيات الإيمان بتوحيد الربوبية الإيمان بعموم خلق الله تعالى لكل شيء ، لا يخرج عن ذلك أي شيء من المخلوقات ، فإذا قالوا : إن العبد هو الذي يخلق فعله فقد أثبتوا مع الله تعالى خالقًا آخر ، وهذا شرك في الربوبية ، وهو تشبه بقول المجوس الذين يقولون : إن للعالم صانعين النور والظلمة ، فالنور خلق الخير ، والظلمة خلقت الشر ، ولذلك فقد ورد في بعض الأحاديث والآثار أن هؤلاء القدرية مجوس هذه الأمة لأنهم يضيفون خلق فعل العبد إليه ويزعمون أنه هو الذي خلقه ، ومذهب يفضي إلى هذه النتيجة الباطلة بالاتفاق فإنه باطل بالاتفاق .
الرابع : أن القدرية متناقضون ، فإنهم يزعمون أن القرآن مخلوق استدلالاً بقوله تعالى : } الله خالق كل شيء { ، ويقررون أن هذا العموم لا يمكن أن يخرج عنه شيء ثم هم يخرجون مع عقولهم الجاهلة، وأفهامهم المنكوسة ، فأدخلوا في النص ما لم يدخل فيه بإجماع أهل السنة ، وهذا دليل على أن مبنى قولهم هذا إنما هو التخرص والظنون الكاذبة والشهوات والهوى ، ومذهب بني على هذا فإن حقه الاطراح وعدم الالتفات إليه ، والله أعلم .
* * *
الدرس: الثالث




س164: ما أنواع التقدير ؟ مع بيان دليل كل نوع .
ج164: أقول : ذكر أهل العلم أن كتابة المقادير لها عدة أنواع وهي كما يلي :
الأول : التقدير العام الشامل لكل شيء ، وهو تقدير الرب لجميع الكائنات بمعنى علمه بها وكتابته لها ومشيئة وخلقه لها ، ودليل ذلك قوله تعالى : } ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتابٍ إن ذلك على الله يسير { ، وهذا النوع يسميه بعض أهل العلم بالتقدير الأزلي ، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى : } وكل شيء أحصيناه في إمام مبين { .
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي e قال : (( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )) ، قال : (( وعرشه على الماء )) . وحديث محاجة موسى لآدم - عليهما الصلاة والسلام - وفيه أن آدم - عليه السلام - قال : فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني . قال موسى : بأربعين عامًا . قال آدم : أتلومني على أن عملت عملاً كتب الله أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين عامًا ، قال : (( فحج آدم موسى )) . وكذلك يدل عليه حديث : (( إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة )) . وحديث أبي هريرة عند البخاري مرفوعًا : (( جف القلم بما أنت لاقٍ فاختص على ذلك أو ذر )) .
الثاني : التقدير العمري ، وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله من كتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، ويدل عليها حديث ابن مسعود t قال : حدثنا الصادق المصدوق e قال : (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وشقي أو سعيد )) متفق عليه ، وعن أنس tقال : قال رسول الله e : (( وَكَّلَ الله تعالى بالرحم ملكًا فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقها قال : أي ربي أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب في بطن أمه )) متفق عليه .
الثالث : التقدير الحولي ، ومعناه كتابة ما سيكون في هذه السنة من الإيجاد والإعدام والإعزاز والإذلال والرفع والخفض والرزق والعمل ونحو ذلك ، وهذا التقدير يكون في ليلة القدر من العشر الأواخر من رمضان ، قال تعالى : } إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم { ، وقال تعالى فيها : } تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمرٍ سلام هي حتى مطلع الفجر { .
وقد روي عن ابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير أنهم قالوا : (( يكتب فيها أي في هذه الليلة ما يحدث في السنة من موت وحياة وعز وذل ورزق ومطر حتى الحجاج يقال : يحج فلان ويحج فلان )) .
الرابع : التقدير اليومي ، وهو تقدير ما سيحصل في كل يوم بيومه ، ويدل عليه قوله تعالى : } كل يوم هو في شأن { ، فقد قيل في تفسيرها : شأنه أن يعز ويذل ، ويخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، ويغني ويفقر ، ويضحك ويبكي ، ويميت ويحيي ، إلى غير ذلك ، فهذه هي أنواع التقديرات والله تعالى أعلى وأعلم .
* * *
الدرس: الرابع




س165: وضح وسطية أهل السنة - رحمهم الله تعالى - في هذا الباب –باب القدر- ذاكرًا من خالفهم فيه ؟


ج165: لقد خالف في باب القدر فرقتان ضالتان كل الضلال ، قد تاهتا فيه أعظم التيه ، إحداهما غلت في إثباته ، والثانية فرطت .
فالفرقة الأولى : يقال لها الجبرية ، وهم الجهمية نفاة الصفات ، لكن في باب القدر نطلق عليهم الجبرية ، وهؤلاء يقولون إن كل شيء لا يقع إلا بقضاء الله وقدره ، 
وهذا قول صحيح لا غبار عليه ، ولكن يا ليتهم وقفوا عند هذا ، بل غلوا في إثبات القدر حتى قالوا : وليس للعبد قدرة ولا اختيار على فعله ، 
بل هو كالريشة في مهب الريح ، وكالميت بين يدي غاسله ولا يملك مطلق القدرة ولا مطلق الاختيار ، فأنت ترى أن قولهم في باب القدر فيه حق وباطل ، 
فالحق هو إثباتهم للقدر السابق ، والباطل سلبهم العبد قدرته واختياره .
والفرقة الثانية : القدريةوهم المعتزلة ، وهؤلاء يقولون : إن العبد له مشيئة وقدرة واختيار على فعله فليس هو مجبور عليه ، بل يفعل فعله ، بقدرته واختياره ، 
وهذا القدر من قولهم حق لا غبار عليه ، ولكن يا ليتهم وقفوا عند ذلك ، بل زادوا عليه قولهم ، والعبد هو الذي يخلق فعله ولا رابطة بين مشيئته ومشيئة الله جل وعلا ، 
فجعلوه هو الذي يختار ويشاء فعله الاختيار المطلق والمشيئة المطلقة ، فعندهم : قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله جل وعلا ، فليس هناك مطلق الرابطة بين مشيئة العبد ومشيئة الله عز وجل ، 
وقد انقسموا فرقتين :القدرية الغلاة ، وهم الذين ينكرون سبق العلم والكتابة ، ويقولون : إن الأمر أنف لا يعمله الله تعالى إلا بعد وقوعه من العبد ، 
وهي الفرقة التي كفرها من عاصرها من الصحابة كابن عمر وغيره .
والفرقة الثانية : القدرية المتأخرون ، وهؤلاء هم أكثر القدرية في هذه الأزمنة ، ويقولون : قد علم الله ما سيفعله العبد لكن العبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً ، فلا ينسب الفعل إلى الله خلقًا ولا إيجادًا ، 
هذه هي خلاصة أقوال الفرق في هذه المسألة .
فجاء أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وأعلى منارهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم وجمعنا بهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم ..
فأخذوا الحق الذي مع كلا الفرقتين وتركوا الباطل ؛ لأنهم أحق بالحق وهذه الفرق أحق بالباطل ، 
فقال أهل السنة : كل شيء بقضاء الله وقدره فالله تعالى قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة 
وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ وشاءه بمشيئته النافذة وقدرته الشاملة وخلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وجعل لعبادة قدرة على أفعالهم ومشيئة ، وهو الخالق لقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم ، 
فلا يشاءون إلا ما يشاء الله ، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم وأن العبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والمزكي والصائم .
وبالجملة فأفعال العباد تنسب إلى الله تعالى خلقًا وإيجادًا ، وتنسب إلى العبد فعلاً واكتسابًا ، 
فأهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول حققوا مذهب الوسطية كعادتهم وأخذوا بالأدلة كلها ولم يدعوا منها شيئًا ولم يخالفوا بهذا القول نصًا صحيحًا صريحًا ، 
بل جاء قولهم متوافقًا مع الأدلة في هذا الباب كل الموافقة ، 
وهذا من هداية الله تعالى لهم وتوفيقه وحسن امتنانه ، فلا هم غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره كما تقوله الجبرية ، ولا هم غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى جعلوه هو الخالق لفعله استقلالاً كما يقوله القدرية .
فهذا هو التوسط بين هاتين الفرقتين ، فالجبرية أخذوا بنصوص إثبات المقادير السابقة فقط ، ولم ينظروا في النصوص المثبتة لمشيئة العبد وتركوا الأدلة التي فيها إثبات عموم القدر والخلق ، 
أهل السنة أخذوا بكل الأدلة ، فصار قولهم هو القول الوسط ، قال تعالى : } وكذلك جعلناكم أمة وسطًا { ، والله أعلم .


* * *
س166: هل العبد مسير أم مخير ؟


ج166: أقول : اعلم - يا رعاك الله تعالى - أن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف الأقوال في باب القدر ، 
فالجبرية الذين يسلبون العبد قدرته واختياره يقولون : إن العبد مسير مطلقًا ، لا حيلة له في فعله ولا ينسب فعله إليه إلا مجازًا ، 
وهذا القول خطأ ؛ لأنه بني أصلاً على خطأ ، وما بني على الضلال فهو ضلال .
وأما القدرية الذين يثبتون للعبد القدرة الكاملة والمشيئة المستقلة فإنهم يقولون : العبد مخير مطلقًا ،
وهذا القول خطأ أيضًا ؛ لأنه مبني على خطأ ، 
وأما أهل السنة - رحمهم الله تعالى - فلأنهم يقولون بإثبات القدر السابق وبإثبات قدرة العبد ومشيئته 
فقد قالوا هنا : إن العبد مسير ومخير ، لكن باعتبارين ، فهو مسير باعتبار ما كتب وقدر له وسبق به العلم في الأزل ، ومسير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره ،
أي أننا إذا نظرنا إلى ما سبق وقدر وفرغ من كتابته قلنا : هو مسير ، وإذا نظرنا إلى دخول الفعل تحت قدرته واختياره قلنا : هو مخير ، فاجتمع فيه التسيير والتخيير .
ونضرب لك مثلاً : لو أن إنسانًا سلك طريقًا من الطرق ثم جاءه مساران إما يمين وإما شمال فهو مخير باعتبار أنه إن أرد أن يذهب يمينًا فله ذلك ، وإن أراد أن يذهب شمالاً فله ذلك ، 
فهذا الفعل داخل تحت اختياره ، فهو بهذا الاعتبار مخير ، لكن اعلم أنه لن يذهب إلا إلى الجهة التي قدرها الله له وسبق بها علمه وكتابته فهو بهذا الاعتبار مسير .
ومثال آخر : لو أن إنسانًا خير بين سيارتين لشراء واحدة منهما ، فهو مخير إن شاء اشترى هذه السيارة وإن شاء اشترى الأخرى ، فهذا الفعل أي شراء إحدى السيارتين فعل داخل تحت قدرته واختياره ، 
فهو بهذا الاعتبار مخير ، ولكن اعلم أنه لن يشتري إلا السيارة التي كتبت له وقدرت له ، وسبق بها علم الله تعالى وشاءها له ، وهو بهذا الاعتبار مسير .
وعلى ذلك فقس ، فأيضًا أهل السنة - رحمهم الله تعالى - بهذا القول قد سلكوا مسلك الوسطية كعادتهم رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى ، والله أعلم وأعلى .
* * *
الدرس: الخامس




س167: هل الإيمان بالقدر يتنافى مع فعل الأسباب والحرص عليها ؟ فصل في ذلك مع ذكر الدليل .



ج167: مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان بالقدر لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب ، بل يقولون : إن الأخذ بالأسباب من الإيمان بالقدر ، فمباشرة الأسباب من تمام الإيمان بالقدر ، ولهذا فيجب على العبد مع الإيمان بالقدر الاجتهاد في العمل والأخذ بأسباب النجاة والالتجاء إلى الله تعالى بأن ييسر له أسباب السعادة ، وأن يعينه عليها ، ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة ، فقد أمرت بالعمل وطلب الرزق واتخاذ العدة لمواجهة العدو والتزود للأسفار وغير ذلك ،


كما قال تعالى : } فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون { ، وقال تعالى : } هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور { ، وقال تعالى : } وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم { ، وقال تعالى : } وتزودوا فإن خير الزاد التقوى { ، وقال تعالى : } وقال ربكم ادعوني أستجب لكم { .


وقال - عليه الصلاة والسلام - لما قيل له : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل , فقال : (( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، فأهل السعادة يسيرون لعمل السعادة وأهل الشقاوة يسيرون لعمل الشقاوة )) ثم قرأ : ((} فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى {)) والحديث في الصحيح. وقال - عليه الصلاة والسلام -: (( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز )) ،


بل إن ترك تعاطي الأسباب اتكالاً على الكتابة السابقة في حقيقته أنه للقدر أصلاً ؛ لأن الله تعالى ربط هذا الكون بعضه ببعض ونظم بعضه ببعض وربط الأشياء بأسبابها ، ودلنا على السبب إن كنا نريد حصول أثره ،


فعلمنا دفع قدر الجوع بالأكل ، وقدر الظمأ بالشرب ، وقدر منازلة العدو ، بحسن الإعداد الباطني والظاهري ، وقدر إحكام الشهوة بالزواج للقادر وبالصوم لمن لم يجد ، وقدر الفقر بالسعي في طلب الرزق الحلال ، وقدر دخول النار بالاجتهاد في العمل الصالح مع ترك الذنوب والمعاصي ، وهكذا .فهل بالله عليك يقول أحد مع ذلك أنا أبقى مع القدر ولا أدافعه أو أحصله بالأسباب المشروعة ،


فهذا القول في الحقيقة إنكار للقدر وتكذيب به وإلا فمن مقتضيات الإيمان بالقدر تعاطي الأسباب المشروعة في دفع المكروه وجلب المحبوب ، والله أعلم ,


وأضرب لك مثالين على أهمية تحصيل الأسباب وعدم الاتكال على ما كتب وقدر وهما :


الأولى : قوله تعالى عن مريم: } وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا {،


فانظروا - رحمكم الله تعالى - ، امرأة نفاس خائفة مما سيواجهها تؤمر بهز جذع نخلة حتى يتساقط الرطب ، وإنه لو اجتمع عدد من الرجال الأقوياء فإنهم قد يعجزون عن هزها ،


أَوَلا يقدر الله تعالى على إسقاط الرطب بلا هذا الهز ؟ بلى هو قادر على كل شيء لكن من باب ربط الأشياء بأسبابها والأخذ بزمام الجد والمبادرة وترك التواكل والعجز والكسل ،


فهل يأتي بعد ذلك أحد يقول : سأدع العمل الصالح وأتكل على ما كتب لي ؟ هذا والله عين الغباء والخبل .


الثانية : قوله تعالى عن موسى : } وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم { فهذه الضربة بالعصى أمر بالأخذ بالأسباب وإلا فالله قادر القدرة التامة على فلق البحر بلا ضرب ، ولكن أمر موسى أن يضرب في هذا الوقت العصيب مع أن هذا الضرب سيؤخرهم قليلاً والعدو قد اقترب منهم ، ومع ذلك يؤمر بالضرب بالعصى ، والله إنها لتربية على تعاطي الأسباب والأخذ بالأسباب المشروعة ، والله تعالى أعلى وأعلم .



* * *
س168: ما حكم الاحتجاج بالقدر ؟ مع بيان الدليل ؟



ج168: أقول : مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله تعالى - هو أن الاحتجاج بالقدر منه ما هو سائغ مشروع ومنه ما هو زائغ ممنوع ، فأما السائغ المشروع فأمران :


الأول : الاحتجاج بالقدر عند نزول المصائب ، فإذا نزلت المصائب فعلى العبد أن يتسلى بنسبتها للقدر فيقول : قدر الله تعالى ذلك ولا دافع لقضائه ولا معقب لحكمه ،


قال تعالى : } ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها { ، وقال تعالى : } ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه { ، قال علقمة : (( هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم )) .وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان )) .


الثانية : الاحتجاج بالقدر على المعصية التي قد تاب منها التوبة النصوح الصادقة ، فهذا أيضًا جائز لا بأس به ؛ لأنه لا يريد بهذا الاحتجاج أن يسوغ لنفسه الاستمرار عليها ؛ لأنه قد تاب منها، فإذا وقع الإنسان في شيء من المحرمات ثم تاب التوبة النصوح فعوتب في ذلك فله أن يقول : هذا أمر قدره الله علي ،


ويستدل على ذلك بحديث أبي هريرة t في الصحيحين في محاجة موسى وآدم - عليهما الصلاة والسلام - وفيه: (( فقال آدم : يا موسى أتلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين عامًا )) ، فآدم - عليه الصلاة والسلام - احتج على أكله من الشجرة بأنه أمر مكتوب ومقدر عليه ،


لكن هذا الاحتجاج إنما وقع بعد التوبة النصوح المقبولة ، قال تعالى : } ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى { ، فهذا الحديث فيه دلالة على جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية التي تاب منها التوبة النصوح ، والله أعلم .


الثالثة : الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية التي لا يزال يقارفها مسوغًا لنفسه بهذا الاحتجاج الدوام عليها والاستمرار في تعاطيها ، وهذه هي الحالة الزائغة الممنوعة


وتفصيل الجواب عنها سيأتي في السؤال الآتي - إن شاء الله تعالى - ، والله


أعلم .



** *

الدرس: السادس




س169: ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات ؟ مع بيان ذلك بالأدلة وضرب الأمثلة .


ج169: أقول : قبل الإجابة على هذا السؤال المهم أحب أن أنبهك على أمرين مهمين غاية الأهمية ، وهما :


الأول : اعلم أن القاعدة عند أهل السنة تقول : يجوز الاحتجاج بالقدر في المصائب لا المعائب ، ونعني بالمعائب أي المعاصي التي لا يزال يقارفها ، وقد شرحنا هذه القاعدة في القواعد المذاعة .


الثاني : اعلم أن أهل السنة - رحمهم الله تعالى - يقولون : إن الاحتجاج بالقدر حجة إبليسية التأصيل والتخطيط وآدمية التنفيذ ، فأساسها من كيد الشيطان الرجيم ، والمنفذ لها تطبيقًا عمليًا هم كثير من بني آدم ، والله أعلم .


ثم نقول : الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية وترك الواجب حجة داحضة باطلة كل البطلان نقلاً ، وعقلاً ، وحسًا ، وفطرة ، وبيان ذلك من وجوه عشرة :


الأول : أن القرآن أبطل هذه الحجة غاية الإبطال ولم يعتبرها شيئًا وسماها جهلاً وتخرصًا وظنًا كاذبًا ونفى أن تكون من العلم في شيء ، ووصفها بالزور والبهتان ، قال تعالى : }وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون{ ، وقال تعالى : }وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين{ ، وقال تعالى : }أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين{ ، وقال تعالى عن الذين عبدوا الملائكة أنهم قالوا : }وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون{ ، وأي إبطال بعد هذا الإبطال وما كان باطلاً فإنه لا يسوغ للعاقل أن يتمسك به .


الثاني : اتفاق السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة على عدم اعتبار ذلك حجة مقبولة ، فإنهم - رضي الله عنهم - لم يؤثر عن أحد منهم شيء من ذلك ، بل كانوا ينكرون على المخالف ويعاقبون من وقع فيما يقتضي العقاب من فعل محظور أو ترك مأمور بلا نظر في أن ذلك مقدرًا عليه ، ولاشك أن الإجماع ثابت ثبوتًا قطعيًا في هذه المسألة ، فعلى من نصح لنفسه وأرد لها النجاة باتباع هذا الإجماع فإنه من سبيل المؤمنين.


الثالث : أن الأدلة من الكتاب والسنة قد دلت الدلالة القاطعة الصريحة على أن حجة الله على عباده قد قامت بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، قال تعالى : }رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل{ ، فلا حجة للعباد في ترك المأمور أو فعل المحظور ، فإن الله تعالى قد بين لنا طريق الخير من الشر فالحجة قد قامت والمحجة قد بانت فلم يبق لأحدٍ بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب حجة لمحتج .


الرابع : أن الاحتجاج بالقدر لو كان حجة مقبولة لأدى ذلك إلى إبطال الشرائع ؛ وذلك لأنه يسوغ لكل أحد ترك امتثال الأمر المشروع وارتكاب الشيء الممنوع أن يقول : الله قدره علي ، وكل الأشياء بقدر الله ، فلا داعي إذًا إلى الشرائع ولا إرسال الرسل ولا إلى خلق النار ولا إلى حساب وعذاب ، إذ كل أحدٍ سيحتج بالقدر ، فبان بذلك أنه حجة داحضة باطلة لأنها موصلة إلى هذه النتيجة الباطلة ، وما أدى إلى الباطل فهو باطل .


الخامس : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي مع مخالفته للمنقول فهو أيضًا مناقض للمعقول ، وبيان ذلك أن الإنسان قبل فعل هذه المعصية هل كان يعلم أن الله قدرها عليه ؟ بالطبع لا ، فيكون هو الذي أقدم على فعلها اختيارًا منه لا اضطرارًا ، ولماذا لا يتركها ويقول : لم يقدرها الله علي ، بل لماذا لا يقبل على فعل الطاعة ويقول : الله قدر علي في هذا الوقت أن أفعل هذه الطاعة ، فإن هذا قليل فاعله ، أما أن يتقحم في المعاصي ويخالف أمر ربه ويتنكب عن الصراط المستقيم ويرتكب المحرمات وموبقات الآثام ، ويقول : الله قدرها علي ، فهذا خائب خاسر تائه ضائع لا حظ له في الآخرة ولا ينفعه ذلك يوم القيامة ؛ لأنه لم يكن يعلم ما قدر له حتى يقول : الله قدرها علي ، والله أعلم .


السادس : أن الاحتجاج بالقدر فيه تعطيل للأسباب التي جاءت الشريعة بإثباتها والأمر بها ، فإن الشريعة قد ربطت الآثار بأسبابها فمن أراد هذا الشيء فعليه بتحصيل سببه أما أن يريد آثار الأسباب من غير تحصيل للأسباب فإن هذا قدح في الشرع وعجز وكسل وخور فإن من أراد الولد فلا بد أن يحصل الزواج ؛ لأنه طريق الولد ، لكن من ترك الزواج وقال : إن كان الله قدر لي الولد فسيأتيني ولو لم أتزوج ، فهذا هو الحمق بعينه والجنون بعروقه .


ولو قال قائل : أنا لن أذهب للعمل وإذا كان الله قد قدر لي حصول الراتب آخر كل شهر فسيأتي الراتب ولو لم أسع لتحصيله ، فبالله عليك هل هذا الكلام يمكن أن يصدر من عاقل يعرف ما يقول ؟


ولو قال قائل : أنا لن أذاكر ولن أجتهد في حفظ الدرس وفهمه ولو قدر الله لي النجاح فسأنجح ولو لم أبذل سببًا ، فقل لي بالله عليك ما رأيك بهذا الكلام فإني أدع الجواب لعقلك وقلبك ، وهذا يبين أن الأشياء قد ربطت بأسبابها والتفريق بين الآثار وأسبابها قدح في الشرع وخبل في العقل فنقول : وكذلك أيضًا الهداية ودخول الجنة فإنها قد ربطت بأسبابها ، ففي الحديث : ((فاستهدوني أهدكم)) ، وفي الحديث الآخر : ((اعقلها وتوكل)) ، فمن أراد الهداية فعليه بسلوك سبب تحصيلها ومن أراد الجنة فعليه بسلوك سبب تحصيلها من فعل المأمورات وترك المحظورات مع الإخلاص والمتابعة ، ويوضح ذلك أكثر أن نقول : اعلم يا من تحتج بالقدر أنك لا تحتج به إلا في ترك أمور الطاعة وفعل الحرام فقط ، أما في أمور الدنيا فلا نراك تحتج بالقدر على ترك أسبابها ، بل تفني نفسك ووقتك في تحصيل أسبابها ، ونقول : لابد من الأخذ بالأسباب ، وأما أمور الطاعة والأخذ بأسباب دخول الجنة من تحصيل الهداية والاستقامة فإنك تقول : إذا شاء الله أن يهديني فستحصل الهداية ، وإذا أراد الله أن يدخلني الجنة فسيحصل ذلك ، وهذا عين التناقض ، فبالله عليك كيف تأخذ بتحصيل أسباب الرزق وقد تكفل الله به وتترك تحصيل أسباب الجنة التي ما خلقت أصلاً إلا للعمل لتحصيلها ، فهذا والله لا يسوغ عند العقلاء ، وهذا دليل من الحس ، والله أعلم .


السابع : أن العبد مأمور بالإيمان بالقدر واتباع الشريعة بفعل المأمور واجتناب المحظور ، فلا تناقض بين القدر والشرع ، فالمحتج بالقدر على ترك المأمور أو فعل المحظور هو في حقيقته مؤمن بوجود التناقض بين قدر الله وشرعه وهذا فيه قدح كبير في علم الله وحكمته ، بل يجب عليك أن تعلم أن من لم يؤمن بالشرع فإنه مكذب بالقدر لأن شرع الله من جملة قدره ، ومن لم يؤمن بالقدر فإنه مكذب للشرع ، ولذلك قال ابن عباس : القدر نظام التوحيد ، فمن اعتقد أن هناك تعارضًا بين القدر والشرع فهو زنديق ، ولا يصل العبد إلى ذلك إلا بالاحتجاج بالقدر على ترك الشرع ، فاحذر من ذلك يا رعاك الله .


الثامن : أن العباد مطالبون بالنظر فيما أمروا به فيفعلونه وفيما نهوا عنه فيتركونه ، هذا هو الذي تعبدنا الله تعالى به وهو الذي سنسأل عنه يوم القيامة ولسنا مأمورين بالنظر فيما قدر لنا ؛ لأن هذا أصلاً في علم الغيب ولا يستطاع العلم به ، بل قد نهينا عن الخوض في القدر بلا علم أو برهان ، فنحن مطالبون بالاجتهاد في العمل لا في مطالعة الأقدار ، فالمحتج بالقدر ترك ما هو مأمور به من العمل ونظر فيما لم يؤمر به من مطالعة القدر ، فأشغل نفسه في مطالعة ما لا يعود عليه بالنفع لا العاجل ولا الآجل ، بل أشغل نفسه فيما يعود عليه بالضرر ؛ لأن الهدى والصلاح والبر والتقوى إنما هي في متابعة الرسول e لا في مجرد النظر فيما قدر لنا ، والله المستعان .


التاسع : أن العبد مأمور بالتوبة إذا وقع منه الزلل أمر إيجاب ، قال تعالى : }وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون{ ، وقال تعالى : }يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا{ ، والاحتجاج بالقدر على فعل المعصية قاتل لانبعاث التوبة في القلب ، وبيان ذلك أنه قد سوغ لنفسه الاستمرار على هذه المعصية بأن الله قدرها عليه فلا يفكر أن يتوب منها لأنه وإن رآها خطأ إلا أنه يرى أنه معذور في فعلها لأنها مما قدر وكتب عليه ، فتراه مستمرًا عليها لا ينزجر عن فعلها ولا يرعوي عن مقارفتها ، والتوبة أمر مقصود شرعًا والاحتجاج بالقدر يدفع هذا المقصود الشرعي ، وما دافع المقصود الشرعي فإنه باطل .


العاشر : أن الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية لو كان حجة مقبولة لبادر بها إبليس لـمَّا تخلف عن السجود ولقال يا رب أنت قدرتها علي ، لكن علم في قرارة نفسه أنها لا تنفعه لأنها في الحقيقة ليست عذرًا مقبولاً ، فإبليس بهذا مثله كمثل من يروج المخدرات وهو لا يستعملها فهو يروج لهذه البضاعة - أعني الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية - وهو عالم كل العلم أنها ليست مما ينفع ، ولذلك عدل عنها .


فهذه بعض الأوجه في كشف زيف هذه الحجة ولعلها تكون كافية إن شاء الله تعالى ، والله أعلى وأعلم .


* * *


س170: ما المشروع عند نزول المصائب ؟ مع بيان الدليل .


ج170: المشروع عند نزول المصائب من الموت والأمراض والعاهات والحوادث والكوارث ، ونحو ذلك عدة أمور :


الأول : أن يعلم أنها مما سبق به القلم وطويت عليه الصحف ، قال تعالى : }ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير{ ، وأنه لا دافع لقضائه ولا معقب لحكمه جل وعلا .


الثاني : أن يؤمن إيمانًا جازمًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه .


الثالث : وجوب الصبر وعدم فعل أو قول شيء فيه جزع وتسخط على ما نزل من القدر ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) . وقال أبو موسى : ((إن رسول الله e بريء من الصالقة والحالقة والشاقة)) . الصالقة : هي ترفع صوتها عند المصيبة ، والحالقة : التي تحلق شعرها أو تنتفه عند المصيبة ، والشاقة : هي التي تشق جيبها عند المصائب . وقال - عليه الصلاة والسلام - : ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) ، وكل هذه الأحاديث في الصحيح .


ومن ذلك قول ( لو ) كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ((وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) ، فالصبر عند المصائب معناه حبس اللسان والجوارح عن قول وفعل ما لا يليق مما فيه منافاة لما يجب منه ، نسأل الله تعالى أن يعيننا وإياك على الصبر عند حلول المصائب .


الرابع : أن يعلم العبد أن هذه الحوادث والكوارث إنما سببها ما كسبت يداه من الذنوب والآثام ، قال تعالى : }ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون{ ، وقال تعالى : }وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير{ ، لأن العبد إذا استشعر ذلك أحدث له توبة واعترافًا وانكسارًا وخضوعًا لربه جل وعلا واستغفارًا على سابق هذا الذنب وهذا أمر مقصود شرعًا.


الخامس : الرضى والتسليم لقضاء الله وقدره ، قال تعالى : }ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه { ، قال علقمة : ((هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم)) .


وقد اختلف العلماء في حكم الرضى على قولين ، والأرجح أنه مستحب ، وهو اختيار الشيخ تقي الدين وتلميذه ، وكثير من المحققين .


السادس : شكر الله وحمده على ما قضاه وقدره ، وأن يحدث العبد عند ذلك عبودية الشكر والحمد وهذا مقام العارفين وهو سنة لكنه حالة كاملة عالية فاضلة صعبة المنال إلا على من يسرها الله عليه ، فإن العبد قد يشكر ويحمد بلسانه فقط وفي قلبه ما فيه ، أما أن يكون الشكر والحمد مصدره القلب واللسان معبرٌ عنه فهذا لا يستطيعه إلا أهل العبادات وصفاء النفوس ، جعلنا الله وإياك منهم .


السابع : التسلي بقول الأوراد الشرعية الثابتة في ذلك ، كقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، قال تعالى : }الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون{ .


وكقول : ( قدر الله وما شاء فعل ) ، كما ورد معنا في الحديث قبل قليل .


وكقول : ( اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها ) ، كما في حديث أم سلمة لما مات أبو سلمة أمرها النبي e أن تقول ذلك ، فأبدلها الله برسول الله e .


وكقول الإنسان لأخيه عند نزول مصيبة الموت بأحد أهله : ( اصبر واحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى ) ، كما في الحديث الصحيح : ((مرها فلتصبر ولتحتسب ... )) إلخ . وكقول الإنسان عند زيارة المريض : ((لا بأس عليك كفارة طهور إن شاء الله تعالى )) كما في الحديث ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
* * *
الدرس: السابع




س171: ما سبب ضلال الجبرية والقدرية في باب القدر ؟
ج171: هذا سؤال مهم جدًا ؛ لأننا إذا عرفنا سبب الضلال حذرناه وابتعدنا عنه. فأقول : اعلم أن القدرية والجبرية كانوا أخوين يمشيان في طريق واحد ، وعندهم قاعدة قد أصلوها واعتمدوها ، وهي أن كل شيء يشاؤه الله فهو يحبه ، فالمشيئة عندهم مرادفة للمحبة ، إلى هنا وهم متفقون ، لكن لما نظروا إلى الأشياء الموجودة في الكون وجدوا فيها الكفر والشرك والبدعة والزنا وشرب الخمور وعقوق الوالدين والسرقة ونحو ذلك من الآثام .
فقالت الجبرية : بما أن هذه الأشياء قد شاءها الله وأوجدها فهو يحبها ونحن مجبورون على فعلها ، فترى الواحد منهم يقارف الذنب ويرى أنه يفعل عين ما يحبه الله تعالى ؛ لأن الله شاءه وكل شيء يشاؤه فهو يحبه .
وأما القدريةفإنهم لما نظروا إلى نتيجة هذه القاعدة وقفوا متحيرين وتعاظموا أن يقولوا إن الله يحب الكفر والزنا واللواط والخمر ونحو ذلك ؛ لأن وجودها في الكون دليل المشيئة لها والمشيئة عندهم مرادفة للمحبة فقالوا : لا حل عندنا إلا أن نقول إن العبد هو الذي يخلق هذه الأفعال وأن الله تعالى لم يشأها منه ولا أرادها أن تقع في الكون ، لكن العبد هو الذي أوجدها بنفسه استقلالاً ، وهم بذلك قد وقعوا في شر مما فروا منه ، فأنت ترى أن سبب ضلال هاتين الفرقتين هو أنهم جعلوا مشيئة الله وإرادته شيئًا واحدًا لا ينقسم وأنها مرادفة للمحبة ولهذا لزم عليهم هذه اللوازم الباطلة .
فالجبرية والقدرية اتفقوا في الأصل والقاعدة ، واختلفوا لما ظهرت نتائجها ، فالجبرية رضيت بها ، وأما القدرية فرفضت هذه النتيجة لكن القدرية لم يتجرءوا على تغيير هذه القاعدة واستطاعوا تحريف كلام الله وكلام رسوله e ليتوافق مع أهوائهم ومذاهبهم ، فنعوذ بالله من أسباب الضلال ونسأله جل وعلا أن يهدينا رشدنا ، والله أعلم .
* * *
س172: ما مذهب أهل السنة في إرادة الله جل وعلا ؟ مع بيان ذلك بالتقسيم والتدليل وبيان وجه الفرق .
ج172: هذا السؤال متمم لما قبله وهو يبين لك كيف هداية الله تعالى لأهل السنة في هذا الباب ، كما هداهم في سائر أمور الاعتقاد ، وبيان ذلك أن يقال :
مذهب أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى هو أن إرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين :
الأول : الإرادة الكونية القدرية ، وهي مرادفة للمشيئة وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء ، فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواءً ، فالطاعات والمعاصي كلها داخلة تحت هذه الإرادة ، قال تعالى : }وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له { ، وقال تعالى : }ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون { ، وقال تعالى : }فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء { ، وقال تعالى : }ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد{ ، وغير ذلك .
الثاني : الإرادة الشرعية الأمرية الدينية ، وهي مرادفة للمحبة ، وتتضمن ما يحبه الله ويرضاه ، قال تعالى : }يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر { ، وقال تعالى : }والله يريد أن يتوب عليكم{ ، وقال تعالى : }ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم{ ، وغير ذلك .
فهذا من ناحية التقسيم والتدليل ، وأما من ناحية التفريق بين الإرادتين فاعلم أن أهل العلم قد فرقوا بينهما بثلاثة فروق :
الفرق الأول : أن الإرادة الكونية لا تستلزم المحبة ، وأما الإرادة الشرعية فإنها تستلزم المحبة ، أي أنها ليس كل شيء يخلقه الله كونًا يلزم أن يكون محبوبًا له ، وهذا فيه رد لقاعدة الجبرية والقدرية ، وهي قولهم : كل شيء يشاؤه فهو يحبه ، وهذا الكلام ليس له مطلق الصحة ، وأما الإرادة الشرعية فإن كل شيء أمر الله به شرعًا فإنه يحبه ويرضاه ، فالكونية لا تستلزم المحبة ، والشرعية تستلزم المحبة .
الفرق الثاني : الإرادة الكونية لابد أن تقع ، أي أن كل شيء أراده الله كونًا فإنه لابد أن يقع لا يدفعه شيء أبدًا فالإرادة الكونية لازمة الوقوع ، وأما الإرادة الشرعية فإنها قد تقع وقد لا تقع، أي قد يريد الله أشياء شرعًا لكنها لا تقع كونًا ، فالله يريد شرعًا من الناس الإسلام والهداية ، لكن هذا لم يقع لأن أكثر الناس في كفرٍ وضلال .
الفرق الثالث : أن الإرادة الكونية مرادة لغيرها لا لذاتها ، وأما الإرادة الشرعية فإنها مرادة لذاتها ، فالكفر الواقع مراد لغيره لا لذاته ، والمعاصي الواقعة مرادة لغيرها لا لذاتها ، وأما الإيمان فإنه مراد لذاته وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الطاعات ، فإنها مرادة لذاتها .
فمن فهم هذه الفروق فإنه قد هدي في هذا الباب فيما قد ضل به كثير من الناس ، والله أعلم .
* * *
س173: متى تجتمع الإرادتان ومتى تنفرد إحداهما عن الأخرى ؟ مع بيان ذلك بالأمثلة .
ج173: تجتمع الإرادتان في إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وهكذا أي في إيمان من قد آمن من الثقلين ، فهو كوني لأنه وقع في الكون ، وشرعي لأن الله يحبه ويرضاه ، وإذا صليت فإن صلاتك هذه قد اجتمعت فيها الإرادتان فيه إرادة كونية لأنها وقعت في الكون وشرعية لأن الله يحبها ويرضاها ، وبالجملة فكل شيء وقع في الكون وهو مما يحبه الله ويرضاه فإنه مما اجتمع فيه الإرادتان .
وتنفرد الإرادة الكونية في الأشياء التي وقعت في الكون وهي ما لا يحبه الله ويرضاه ، ككفر أبي جهل وأبي لهب ، بل وكفر من كفر من الثقلين ويدخل في ذلك سائر الذنوب والمعاصي التي وقعت في الكون ، فإنها من قبيل الإرادة الكونية فقط ؛ لأنها مما لا يحبه الله ويرضاه .
وتنفرد الإرادة الشرعية في الأشياء التي يحبها الله ويرضاها لكنها لم تقع في الكون ، فهي شرعية فقط ، لكن ليست بكونية لأنها ما وقعت ،
والله تعالى أعلم وأعلى .

* * *

الدرس: الثامن





س1: كيف يريد الله تعالى أمرًا وهو لا يحبه ؟



ج1: هذا سؤال مشهور تردده ألسنة الذين لا يعقلون عن الله حكمة ومصلحة ويجعلونه وسيلة للقدح في أفعال الله تعالى وسلب الحكم والمصالح عنها ، وهو مزلق خطير إذا لم يؤخذ جوابه من أهل السنة ، فلكم حصل في جوابه من التخبط لما أخذ عن غيرهم وضل به أقوام كثر..



جوابه وبالله التوفيق :



إنه لابد أولاً أن نفرق بين المرادات ، فإن المرادات قسمان : مرادات لذاتها ، ومرادات لغيرها .



فالمراد لذاته مطلوب محبوب لذاته ، وأما المراد لغيره فإنه قد لا يكون محبوبًا ومطلوبًا لذاته ، بل لما يترتب على وجوده من الحكم والمصالح .



فالمراد لغيره بالنظر إلى ذاته لا يكون محبوبًا ولا مطلوبًا ، وبالنظر إلى ما يترتب عليه يكون مرادًا ، فهو مراد لشيء آخر لا أنه مراد لنفسه ، وأضرب لك مثالين على المراد لغيره ليتضح لك الأمر :



الأول : قطع العضو المتآكل الذي يكون في بقائه تلف بقية الأعضاء ، فإن الإنسان يذهب بنفسه إلى الطبيب ويمد هذا العضو إليه وهو يعرف أن الطبيب سيقطع هذا العضو من جسده ، وهو يريد ذلك القطع لكن بالله عليك هل هذا المريض يريد هذا القطع لذات القطع أي لأنه يحب ذلك لنفسه ؟ بالطبع لا ، ولكنه أراده لعلمه بآثاره الطيبة ومصالحه المترتبة عليه ، فهو أراد القطع لا لذات القطع وإنما أراده لغيره أي أراده لما يترتب عليه من سلامة بقية الأعضاء ، فاجتمع في هذا القطع البغض والحب ، فبالنظر إلى ذاته مبغوض مكروه ، وبالنظر إلى آثاره محبوب مراد ، فهو - أي القطع - مراد لغيره لا مراد لذاته ، ومن ذلك أيضًا تناول الدواء الكريه .



الثاني : قطع المسافات والصحارى والقفار وتحمل الأخطار ومفارقة الأهل والبلد ، للوصول إلى محبوبه الذي ملك عليه قلبه واستحكم حبه في نفسه ، فإن أحدًا لا يريد تعذيب نفسه بذلك لكنه علم أنه لا سبيل للوصال إلا بهذا الشقاء ، فأراد الدخول فيه لا لأنه يريده لذاته وإنما لأنه يعلم بآثاره المترتبة عليه ، فقطع المسافات وتحمل المشاق ليس مرادًا لذاته ، وإنما المراد لغيره ، فهو محبوب من وجه ومبغوض من وجه .



ومن هنا يتبين لنا أن الشيء يجتمع فيه الأمران ، بغض من وجه وحب من وجهٍ آخر ، ومن هنا يعرف الجواب على هذا السؤال الذي طال حوله الجدل وهو أن يقال : إن الأشياء التي أراد الله تعالى وقوعها كونًا وهو لا يحبها ولا يرضاها هي من قبيل المراد لغيره ، لا من قبيل المراد لذاته حتى يرد الإشكال ، فإن الذي يرد هذا الإشكال في ذهنه إنما هو الذي يجعل الأشياء الواقعة كلها من قبيل المراد لذاته وهم الجبرية والقدرية كما ذكرت لك سابقًا أن القاعدة عندهم أن كل شيء يشاؤه فإنه يحبه وهذا مخالف للنقل والعقل والحس والفطرة ، وأما على قول أهل السنة فإن لا إشكال أبدًا ، فكل شيء وقع في الكون فإنه لم يقع إلا بإرادته جل وعلا إذ لا يكون في كونه إلا ما يريد ، وهذه الإرادة لا تخلو إما أن تكون لذاتها وإما لغيرها ، فالأشياء التي وقعت وهو لا يحبها هي من قبيل الإرادة الكونية أي من قبيل ما يراد لغيره لا ما يراد لذاته فإذا فمت ذلك وفرقت بين المرادين فقد أوتيت خيرًا كثيرًا وكفيت شرًا كثيرًا ، وهو من هداية الله لك صراطه المستقيم فاحمد الله على ذلك وأكثر من شكره ليزيدك توفيقًا وهداية ، قال تعالى : }والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم{ ، وقال تعالى : }وإذ تأذن ربكم لئن شكرتكم لأزيدنكم{ ، والله أعلم .



_______________________________




س2: هل ضربت لنا أمثلة على ذلك الأمر ليزداد الأمر وضوحًا ورسوخًا في القلوب ؟



ج2: خلق المصائب والآلام والحكمة من ذلك ، فإن هذه الأشياء ليست مرادة لذواتها وإنما مرادة لغيرها ، فلما يترتب عليها من المصالح والحكم والغايات المحمودة أرادها الله تعالى .



فمن ذلك : تذكير العباد الذين تنكبوا عن الصراط بقدرته جل وعلا ويملهم عسى أن يحدث ذلك في قلوبهم رجوعًا وتوبة ، وكم حصل من الخير بسبب هذه الحوادث والآلام من توبة المذنبين وتيقظ الغافلين ، وإقبال المعرضين ورجوع الكثير إلى الله تعالى ، قال تعالى : } ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون{ .



ومنها : استخراج عبودية الضراء وهي الصبر ، قال تعالى : }وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون{ ، وقال تعالى : }إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب { ، وقال تعالى : } إن الله يحب الصابرين{ ، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله جل وعلا .



ومنها : تكفير السيئات ، فإن العباد كسابون للذنوب كثيرًا وهم خطاءون ، ولربما يغفل العبد عن التوبة عن كثير منها فيجري الله تعالى هذه المصائب والآلام على العبد فيصبر فيكون ذلك سببًا لتكفير السيئات عنه ، وفي الحديث : ((لا بأس عليك كفارة وطهور إن شاء الله)) ، وفي الحديث أيضًا : ((ما يصيب العبد من هم ولا غم ولا وجع ولا نصب إلا كفر الله عنه من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)) ، والأحاديث في ذلك كثيرة .



ومنها : حث النفوس وحفز أشواقها إلى الجنة ، فإن العبد مع مرور هذه الآلام والمصائب التي تكدر عيشه وتنغص عليه حياته يعلم علم اليقين أن هذه الدار دار تعب ومكابدة ونصب ، وأما الجنة فإنها دار الراحة المطلقة فلا تعب فيها ولا نصب ، فيشمر العبد بالاجتهاد في العمل الصالح لنيل هذه الدار الكريمة الغالية ، ولو أن الدنيا لم يكن فيها ذلك لما كان هناك كبير فرق ولنسي العبد الجنة ، فانظر إلى الحكمة العظيمة والغاية النبيلة .



ومنها : تقوية الرابطة بين العبد وربه جل وعلا وعلمه بضعفه ، فإن هذه المصائب والآلام يعلم العبد أنه لا خلاص له منها ولا مخرج له عنها إلا بصدق الالتجاء إلى ربه جل وعلا ، فيكون العبد دائم الذكر ودائم الدعاء والتضرع إلى الله ، وهذا أمر يحبه الله من العبد ، بل هو حقيقة العبادة ، فالعبد مفتقر إلى الله تعالى الافتقار الذاتي ، كما أنه جل وعلا هو الغني الغنى الذاتي ، فلا يمكن في حال من الأحوال أن يزول وصف الافتقار إلى الله تعالى من العبد ، كما أنه لا يمكن ولا يتصور ويستحيل الاستحالة المطلقة أن يزول وصف الغنى عن الله جل وعلا .



ومنها : الدخول في زمرة المحبوبين لله جل وعلا ، فالمبتلون يدخلون في زمرة المحبوبين المشرفين بمحبة الله جل وعلا ، فإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم ، وقد جاء ذلك في السنة كما في قولهe : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط)) حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه .



وغير ذلك من الحكم والمصالح التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله جل وعلا ، فهذا المثل يوضح إن شاء الله تعالى شيئًا من الحكم والمصالح في المرادات لغيرها ، والله أعلم .

* * *
الدرس: التاسع





س1: هل ينسب الشر إلى الله تعالى ؟ وهل يقع في أفعاله شر ؟




ج1: لقد فصل النبي e هذه المسألة بالبيان الواضح والشافي ، وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه في دعاء الاستفتاح أنه e كان يقول : ((لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت)) ، وهذا القول من الصادق المصدوق e يثبت أن الشر لا ينسب إلى الله تعالى ، فالله تعالى لا يفعل إلا الخير والقدر من حيث نسبته إلى الله تعالى لا شر فيه بوجهٍ من الوجوه ، فإنه علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه وذلك خير محض وكمال من كل وجه ، فالشر ليس إلا الرب بوجه من الوجوه لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله ، وإنما الشر يدخل في المقضي لا في القضاء وفي المقدور لا في القدر ، ونعني بالمقضي والمقدور الفعل الصادر من المخلوق ، فالمخلوق هو الذي يفعل الشر ، فالقدر فعل الله تعالى وكله خير لا ينقسم إلى خير وإلى شر ، وأما المقدور فهو فعل العبد وهو ينقسم إلى خير وإلى شر ، فالكفر شر باعتبار نسبته إلى العبد ، والظلم شر باعتبار نسبته إلى العبد ، فلابد من التفريق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق ، ففعل الله وخلقه كله خير لا شر فيه ، وإنما الشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله ، فإن أسماءه الحسنى وصفاته العليا تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه ، وذلك لأن الشر إن أريد به وضع الشيء في غير موضعه فهو الظلم ، ومقابله العدل والله منزه عن الظلم جل وعلا }وما ربك بظلام للعبيد{ ، وقال : ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) رواه مسلم من حديث أبي ذر ، فالله تعالى منزه عن الظلم لكمال عدله ، وإن أريد بالشر ما يلحق العبد من الأذى بسبب ذنب ارتكبه العبد فإن هذا لا يعد شرًا له ، بل هو عدل منه جل وعلا .




وبالجملة فإن أفعال الله تعالى خير كلها ومصلحة كلها ، وحكمة كلها لا شر فيها بوجه من الوجوه ، وهو سبحانه منزه عن نسبة الشر إليه مطلقًا لا إلى ذاته ولا إلى أسمائه وصفاته ولا إلى أفعاله ، فالشر لا يضاف إلى الرب جل وعلا ، لا وصفًا ولا فعلاً ، سبحانه وتعالى وتقدس ، والله أعلم وأعلى .




* * *




س177: ما الواجب على العبد اعتقاده في أفعال الله تعالى ؟




ج177: الواجب على العبد تجاه ذلك أن يعتقد الاعتقاد الجازم أن الله جل وعلا في جميع أفعاله حكمًا جليلة وغايات ومصالح عظيمة سواءً علمناها أو لم نعلمها ، فيجب على العبد أن يعلم ويعتقد أن أفعال الله جل وعلا وأوامره لا تخلو من الحكم الباهرة العظيمة ، وأنه متنزه عن فعل ما لا حكمة فيه ولا مصلحة ، فإن هذا عبث وقد نزه نفسه الكريمة عنه كما في قوله :}أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم{ فأفعاله كلها حكم ومصالح ، وإذا لم تدخل في حدود معلومنا فذلك لا يدل على انتفائها في نفس الأمر ؛ لأن عدم العلم ليس علمًا بالعدم وعقولنا أحقر من تحيط بذلك على وجه التفصيل ، وهذا الإيمان الجملي فرض عين على كل أحدٍ ، بل هو من مقتضيات وصف الله جل وعلا بالكمال المطلق ، فإن القدح في ذلك قدح في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وهو منافٍ لكمال التوحيد الواجب ، بل قد بكون في بعض صوره منافٍ لأصل التوحيد والعياذ بالله ، فعلى العبد أن يؤمن بلا ريب أن الله تعالى هو الكامل الكمال المطلق في علمه وحكمته وسائر أفعاله جل وعلا ، ومقتضى هذا الإيمان أن يؤمن بأن أفعاله جل وعلا كلها بلا استثناء لها الحكم العظيمة والغايات والمصالح المحمودة ، والله أعلى وأعلم .




______________












س2: ما معنى قوله تعالى : } يمحو الله ما يشاء ويثبت






وعنده أم الكتاب { ؟




ج2: هذه الآية واضحة الدلالة ليس فيها شيء يوجب الإشكال ، وبيان ذلك أن يقال : اعلم - رحمك الله تعالى - أن القدر نوعان :




الأول : القدر المثبت أو المطلق أو المبرم ، ويراد به ما قد كتب في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ فإن هذا التقدير ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا يزاد فيه ولا ينقص ، وهذا هو المراد بقوله تعالى :}وعنده أم الكتاب{ ، وبناءً عليه فالآجال والأرزاق والأعمال وغيرهما التي كتبت في أم الكتاب ثابتة لا يعتريها شيء من التغيير والتبديل .




الثاني : القدر المعلق أو المقيد ، وهو ما في صحف الملائكة ، فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات ، فإن الله تعالى قد أمر الملك أن يكتب له أجلاً ، وقال : إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ، والملك لا يعلم أيزداد أم لا ؟ لكن الله تعالى يعلم ما يستقر عليه الأمر ، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر ، وكذلك يقال في الأرزاق والمصائب ونحوها ، فإنه قد يثبت منها أشياء في الكتب التي بأيدي الملائكة ، وقد يمحى منها أشياء ، وذلك كله داخل تحت قوله تعالى : } يمحو الله ما يشاء ويثبت { ، فهذا المحو والإثبات إنما يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة ، وكل ذلك قد كتب في أم الكتاب ، أعني الأقدار وأسبابها ، فلا تبديل ولا محو ولا إثبات فيما كتب في اللوح المحفوظ ، والله أعلم .

* * *
الدرس: العاشر







س1: اذكر لنا بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض الناس في هذا الباب المهم لنحذرها ونحذر منها .




ج1: لقد ذكر جمع من أهل العلم - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - عددًا من الأخطاء في هذا الباب وقد ذكرنا بعضها في ثنايا الأسئلة السابقة ، ولكن أعيدها مختصرة وأزيد عليها ما لم يذكر ، فأقول :




منها : وهو أعظمها الخوض في هذا الباب بلا علم ولا برهان والنزاع فيه ، فإن هذا زلل عظيم ومزلق وخيم ، وهاوية كبيرة قل من يسلم منها إذا وقع فيها ، ولذلك وردت الأدلة والآثار محذرة من ذلك كل التحذير ، فقد روى أحمد وابن ماجه بإسناد حسن عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله خرج على الصحابة وهم يتنازعون في القدر ، هذا ينزع آية وهذا ينزع آية ، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، فقال : ((بهذا أمرتم - أو بهذا وكلتم - أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاتبعوه وما نهيتهم عنه فاجتنبوه)) . وروى الطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود t مرفوعًا : ((وإذا ذكر القدر فأمسكوا)) وحسن إسناده الإمام العراقي وابن حجر والسيوطي والمباركفوري ، وقد قال الله تعالى : }ولا تقف ما ليس لك به علم{ وإن الخوض في القدر بلا علم ولا برهان قد أورث كثيرًا من الأسئلة الاعتراضية التي لا ينبغي أن يسأل عنها وقد أورث أن بعض الناس يبحث في الجوانب الخفية في هذا الباب ، وأفضى أيضًا إلى ترك التسليم والإذعان لله تعالى في قدره ، وكثير من الناس أقحم عقله الضعيف العاجز في اكتشاف مسائل هذا الباب من غير اهتداء بنور الكتاب والسنة ، وهذا أدى إلى التنازع والافتراق في هذا الباب ، وكل ذلك سببه الكلام في هذا الباب بلا علمٍ ولا نورٍ من الله ، فاحذر من ذلك الأمر الخطير ، والله يحفظنا وإياك .




ومنها : الاحتجاج به على فعل المعائب أي المعاصي وقد تقدم لنا الحكم فيه والأجوبة عنه .




ومنها : الاتكال على ما كتب وترك تحصيل الأسباب الشرعية وغيرها اعتمادًا على ما سبق به العلم وهذا خطأ فادح ومدخل شيطاني لابد من سده بمعرفة منهج أهل السنة وقد قدمنا الجواب عن ذلك .




ومنها : عدم الاهتمام بشأن الدعاء ويرى أنه لا حاجة له ؛ لأنه لو دعا ثم دعا فلن يأتيه إلا ما قدر له ، فما قدر له فإنه يأتيه بلا دعاء وما لم يقدر له فلن يأتيه ولو استفرغ جهده في الدعاء ، وهذا فرع من فروع الاتكال على القدرة وتعطيل الأسباب الشرعية ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : ((ولا يرد القدر إلا الدعاء)) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه الألباني - رحم الله الجميع رحمة واسعة - . وقال - عليه الصلاة والسلام - : ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئًا يعطى أحب إليه من أن يسأل العافية ، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء)) وحسنه الألباني أيضًا . وقال e : ((لا يغني حذر من قدر وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)) وحسنه الألباني أيضًا .




وأما ما يتردد على لسان الصوفية من قولهم عن إبراهيم الخليل e : ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)) فإنه كلام لا أصل له ، قاله أبو العباس شيخ الإسلام وغيره من أئمة الحديث .




ومنها : نسبة المشيئة إلى الظروف أو الأقدار فيقول : شاءت الظروف وشاءت الأقدار ، وهذا خطأ لأن الظروف والأقدار لا مشيئة لها وإنما الذي يشاء هو الله تعالى كما حققه الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى - .




ومنها : دعاء بعض الدعاء بقوله : اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه ، وهذا دعاء لا ينبغي ؛ لأنه قد شرع لنا ما هو خير منه وأفضل وهو الدعاء برد القضاء إذا كان فيه سوء ، ويكفيك قوله e : ((تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء)) رواه البخاري .




ومنها : سب القدر واتهامه والتسخط عليه ونسبة السوء إليه - والعياذ بالله تعالى - ، وهو منافٍ للأدب مع الله تعالى ، وعلامة للجزع النافي للصبر الواجب ، ومفضٍ بصاحبه إلى سخط الله تعالى كما في الحديث : ((ومن سخط فعليه السخط)) والجزاء من جنس العمل .




ومنها : ما يفعله بعض الناس من استطلاع القدر المستقبلي عند الكهنة والمنجمين ، وهذا ضلال مبين في باب القدر ؛ لأن القدر من الغيب ، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، ويدخل في ذلك من يصدق بتأثير الأسماء والأبراج فيما يجري للإنسان في حياته .




ومنها : إنكار علم الله تعالى السابق أو إنكار الكتابة السابقة أو إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى كما تقوله القدرية .




ومنها : سلب العبد قدرته ومشيئته كما هو قول الجبرية .




ومنها : زعم أن الإنسان مخير مطلقًا أو مسير مطلقًا .




ومنها : قول العبد ( لو ) أو ( ليت ) عند نزول الأمر المؤلم وقد قدمنا ذلك سابقًا .




ومنها : تمني الموت بسبب ما نزل به من الضر ، هذا حرام لا يجوز ، قال - عليه الصلاة والسلام - : ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لابد متمنيًا فليقل اللهم أحييني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) متفق عليه .




ومنها : قتل نفسه ، وهو المعروف بالانتحار ، وهذا جريمة عظيمة وعقوبتها وخيمة ، قال تعالى : }ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كـان بكم رحيمًا ومن يفعـل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على الله يسيرًا{ . وقال - عليه الصلاة والسلام - : ((من وجأ نفسه بحديدة فقتل نفسه فحديدته في يده يجأ بها في بطنه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) متفق عليه .




وقتل النفس دلالة صريحة على التسخط على القدر ، والمخيف أنه فالآونة الأخيرة بدأ يكثر ، فنعوذ بالله من الخذلان والله أعلم .




فهذه بعض الأخطاء في هذا الباب المهم فاحذر وحذر منها ، عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاءٍ ، والله أعلم .



* * *

س2: ما ثمرات الإيمان بالقدر ؟



ج2: ثمراته كثيرة ، وأذكر منها ما يلي :
الأولى : حصول الهداية وزيادة الإيمان .
الثانية : خفة حدة المصائب النازلة والأقدار المؤلمة .
الثالثة : راحة النفس وطمأنينتها لأنها تعلم أن كلاً بقضاء وقدر وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها وما أخطأها لم يكن ليصيبها .
الرابعة : أن الإيمان بالقدر يربي النفس على الصبر وقوة الاحتمال .
الخامسة : محاربة اليأس والقنوط والعجز والكسل .
السادسة : الشجاعة والإقدام واطراح الخور والجبن .
السابعة : تربية النفس على القناعة .
الثامنة : سد باب الدجل والخرافة وتحرير العقول من ربقتها لأن المؤمن بالقدر لا يعتمد على خبر دجال ولا عراف ولا كاهن ولا يستطلع إلى مستقبله إلا بالبناء الصحيح بالجد والعزيمة الصادقة والاجتهاد في العمل ، والله تعالى أعلى وأعلم .

* * *



* * *




* * *
الأسئلة التطبيقية:



  • س1: مامعنى القضاء والقدر؟



  • س2: ما كيفية الإيمان بالقدر، مع الدليل؟



  • س3: ما الدليل على أن أفعال العباد مخلوقة، وهي من قدر الله تعالى؟



  • س4: كيف الرد على من قال أن أفعال العباد غير مخلوقة


  • وهي من فعل العبد لا قدرا؟ -تعداد نقاط فقط-



  • س5: ما معنى: (التقديري العام)، و(التقديري العمري)؟



  • س6: اذكري دليلا على التقدير الحولي؟



  • س7: من هم القدرية، ومن هم الجبرية؟ 



  • س8: وضحي معنى قول أهل السنة –العبد مسير ومخير-؟



  • س9: هل الإيمان بالقدر ينافي فعل الأسباب؟ اذكري دليلا.



  • س10: هل يجوز الاحتجاج بالقدر عند نزول المصائب؟



  • س11: ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات ؟ "اذكري ثلاثة فقط"



  • س12: ما المشروع عند نزول المصائب ؟ مع بيان الدليل . "اذكري ثلاثة فقط"



  • س13: ما الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؟



  • س14: مثلي لكل من الإرادة الشرعية والكونية؟



  • س15: ما هو الاعتقاد الصحيح في أفعال الله تعالى ؟



  • س16: المحو والإثبات، يكون في صحف الملائكة، أم في أم الكتاب ؟





http://www.lakii.com/vb/a-67/a-705266/



^ أعلى الصفحة